اعتادت المدن أن تحمل إسمنتها بصفة أساسية، وتتجمل ببعض من الحديد والزجاج والحجر والبلاط في مبانيها. ورغم جمالية فنون العمارة القديمة والحديثة التي تجعل الحجر ينطق فنا، فإنه لا شيء يضاهي الطبيعة وهي تأخذ مكانها بين البيوت وتتسلق الشرفات والسطوح.
وقد اعتاد الناس على أن يزينوا بيوتهم وشرفاتهم بنباتات الزينة دائمة الخضرة لإضفاء حياة على الجدران المغلقة، ويدخلون نفحة من الطبيعة إلى منازلهم.
الخضار إلى الشرفات والأسطح
قلما زرع سكان المدينة الخضار حديثا في بيروت، إلا أولئك الذين يملكون الحدائق أمام منازلهم. ولكن المساحات الخضراء انكمشت وتضاءلت، وغزا الإسمنت المدينة بشكل كبير.
ومع أزمة الحجر المنزلي والتدهور الاقتصادي في لبنان، نزح كثير من الناس إلى القرى وبدؤوا يزرعون كل شبر متوفر لديهم بالنباتات الموسمية.
وفي المدن بدأت الشرفات وأسطح المباني تتحوّل إلى أحواض لزراعة الخضار التي تسد الرمق وتوفر بعض المال، إضافة إلى تناول خضار عضوية ونظيفة.
وتم تأسيس صفحة على فيسبوك سميت “مجموعة ازرع” (izraa.group)، وسارع المهتمون بالزرع للنهل من التفاعل عليها بين المختصين والمهتمين وأصحاب التجارب في كل ما يتعلق بالمزروعات والعناية بها.
كورونا والثورة الزراعية
يقول المهندس الزراعي حنا مخايل المتخصص في حماية النباتات إن أزمة كورونا شكلت ما يشبه ثورة زراعية، فالناس ضجروا من البيوت وأصبح الزرع منفذا مريحا لهم.
يعتبر مخايل أن من يزرع لمنزله يزرع “صحن السلطة الخاص بالعائلة. فالناس غالبا يزرعون الخيار والبندورة والحشائش، وبعض الخضار للطبخ كالكوسا واللوبياء”، مشيرا إلى أن “الأكل العضوي لا يسبب الأمراض”.
ويشجع مخايل على زراعة الخضار متسائلا “لماذا نبتة زهرة الغاردينيا مثلا جميلة على الشرفة وأشتال الفلفل والبندورة لا؟!”، ويعتبر أن الأمن الغذائي جعل الناس يفكرون في الغذاء أكثر من الزينة.
وعن أحواض الزرع، يقول إن البعض استخدموا الأحواض المخصصة للزراعة، وآخرون استخدموا أوعية البلاستيك والغالونات والقناني (الزجاجات الفارغة)، فالحاجة أم الاختراع.
ويقترح حنا مخايل الري كل يومين في الصيف، والتنبه إلى الحشرات ومعالجتها منزليا من دون إدخال السموم واستعمال “ملعقة ونصف المعلقة من الصابون السائل وتركه يذوب في ليتر ماء ويرش على الحشرات الضارة”.
الاكتفاء الذاتي
المهندس المعماري والمصور عبدو سليم أبو جودة يعتبر أن الاهتمام بزرع الأسطح والشرفات يأتي من فكرة الأمن الغذائي، إذ يستطيع الشخص إنتاج طعامه اليومي، وهو ما توصل إليه شخصيا بعد أن بدأ بمشروعه على السطح منذ ثلاثة أشهر.
ويقول إن لديه الآن اكتفاء ذاتيا لأربعة بيوت بعد أن زرع مساحة 30 مترا مربعا. والمزروعات هي الخيار والكوسا واللوبياء والفجل والروكا (الجرجير) والسبانخ والسلق والبطيخ والبروكولي والحبق (الريحان) وأنواع النعناع والبقدونس والبندورة بثلاثة أنواع وشجرة ليمون. علاوة على أشجار المانغا والحمضيات والأفوكادو الموجودة في حديقة المنزل.
يقر عبدو بأنه من الأشخاص الذين لا يحتملون البقاء بين أربعة حيطان، وتتعب نفسيته إذا كان في مكان لا يطل على مشهد ما، ويجد في الطبيعة العلاج.
ويبين عبدو أن كل الأسطح يمكن استخدامها ضمن السلامة العامة هندسيا عبر توزيع الأوزان على الأعمدة والجسور. وتتجه معظم دول العالم لاستثمار الأسطح لتنقية الجو لأن النباتات تزيد الأكسجين في الجو وتخفف التلوث، ولأن الأسمنت يسخن بقوة فالنباتات تخفف وطأة الحر، حتى إن حرارة المدن قد تنخفض حوالي 3 درجات، بالإضافة إلى الاستفادة من النباتات بتناولها أو بيعها.
السطح أصبح حديقة
استخدم عبدو عدة طرق للزراعة مثل الهايدروبونيك (نظام الزراعة المائية المعلق) أو الزراعة بأنابيب الماء، لكنه صعب من الناحية التقنية، لأنه يحتاج إلى رقابة دائمة ودقيقة.
أما الزراعة التقليدية في التراب التي بدأها عبدو منذ ثلاثة أشهر، فتتمثل في عزل السطح وصنع أحواض من الخشب محافظا على التهوية تحت الأحواض ولتصريف الماء.
فرح جيران عبدو بزراعة سطحه إذ حوّل المشهد إلى حديقة خضراء، ورتب مكانا للجلوس في أحضان غابته الصغيرة على السطح، حيث علو النباتات وصل لأكثر من مترين، وجاءت العصافير لتستوطن هذه الحديقة. ولا يضع عبدو المبيدات للحشرات إنما يعالجها إما ببكتيريا عضوية وإما بمواد طبيعية.
وعن المزروعات الداخلية لتنقية الهواء، يقترح عبدو زراعة شتلة السنايك (نبتة الثعبان) أو لسان الحماة كونهما لا تحتاجان للكثير من العناية، فهما تنقيان الجو وتزيلان بعض الكيميائيات التي يفرزها البلاستيك وكأنها فلتر طبيعي. وكذلك نبتة دراكاينا (النخيل المقزمة) ولها الفاعلية نفسها، والسبايدر (نبتة العنكبوت) التي تبعد الناموس (البرغش) والحشرات.
نباتات زينة
بدوره، يقترح المهندس الزراعي عبد المحسن الصالح من حلب زراعة المباني بالنباتات المدادة والمكحلة لأن إثمارها سهل وسريع، كما أنها دائمة الخضرة صيفا وشتاء، ولونها جميل، ولا تحتاج إلى الكثير من العناية. إضافة إلى نبات المرجان والمزركش.
ولزراعة الشرفات، يعتبر الصالح أن الحوليات مناسبة، وهي نباتات ذات موسم واحد، وميزتها جمال الألوان مثل هرجاية (ثالوث) وقرنفل وزينيا وأقحوان وفم السمكة.
ومن النباتات المقاومة والجميلة، يقترح زهر الهوا الناعم والخشن وزمر السلطان وأم كلثوم (لانتانا كامارا) والعطرية، وكلها نباتات محلية.
ومن النباتات الجميلة والمناسبة للسطوح بحسب عبد المحسن، الجهنمية (المجنونة) ولها أكثر من لون، وتكبر لتصبح شجرة مزهرة تصل إلى 3 أمتار.
أما النباتات التي تؤثر على تحسين المزاج كون رائحتها تحفز إفراز هرمون الإندروفين الذي يعطي شعورا بالسعادة، فقد كانت تزرع بالفطرة مثل النعناع والياسمين والفل والريحان.
المصدر : الجزيرة